
أستمع إلى ماجدة الرومي تشدو “وأعود إلى طاولتي لا شيء معي إلا كلمات”، فتعلق الكلمات في رأسي، وتجذب حولها كل الأفكار المتعلقة بالكلمة، فأرى أثر الكلمة كأثر الفراشة، يملك قوة أكثر مما نتخيل. فقد تبني عمرًا، وقد تهدم حلمًا، وقد تحلق فتنقذ وتبهج وترسم ألوان، وقد تقع وقع الانفجار، أو تكون كلجج البحر الغاضب، فتؤذي وتميت أشياء كانت نابضة بالحياة. فكان شهري عبارة عن كلمات انغمست فيها فارتقيت، وكلمات نغصت أيامي وازعجتني. فقد كانت نهاية الشهر حنونة وكأنها تعوض عن أخوتها الأوائل، تفرغت فيها لنفسي وتحقيق ما اعتدت أن أفعله، فتفتحت أمام ناظري الكثير من الأمور التي كنت أجهلها، وكذلك شعرت ببهجة وتوق لتعلم المزيد.

تحدي نالا عيسى لشهر فبراير
الرائعة نالا عيسى هي لايف كوتش في الوعي الذاتي، تشارك على صفحتها في الانستغرام وكذلك في قناتها على تيليجرام تحديات شهرية، تقوم فكرة التحدي على مهام شبه يومية. وتتنوع المهمة ما بين مسموع ومرئي ومكتوب، فتحتوي على رسائل قرآنية، مقاطع صوتية (بودكاست)، برامج أو أفلام، أسئلة تأملية كتابية. كأنه كبسولة يومية تجعل وعيك مختلف نهاية الشهر. أحب خانة عمق، والفيديو الطويل، الذي يسليني أثناء العمل اليدوي الذي لا يحتاج إلى تركيز كامل.

زوربا اليوناني
طال مكوث هذا الكتاب في قائمة الكتب التي كنت أراها دائما وأتردد في اقتنائها، إلى أن حان وقته، فبداية هذا الشهر كانت صعبة، وأردت أن أخفف عن نفسي برفقة زوربا، الذي إذا أردنا أن نصفه باختصار فسنستعير وصف الكاتب (رئيسه وصديقه) حين قال: “أعجب بهذا الانسان الساذج الذي يصل إلى أعماق الجوهر عن طريق تحطيم قشرة الحياة المتمثلة في فضائل: المنطق والأخلاق والإخلاص؟ فهو يفتقد أغلب هذه الفضائل الصغيرة، ولم يبقى إلا فضيلة واحدة، صعبة، خطرة، تشد به إلى الهاوية دون أن يقوى على المقاومة… (هو) أشبه بالطفل الذي يدهش أمام الأشياء، كما لو أنه يراها لأول مرة. لا يتوقف عن التعجب والتساؤل، كل شيء يراه يبدو له كمعجزة، عندما ينهض كل صباح ويرى الأشجار والبحر والصخور وطائر يقف على غصن، فإذا به يُدهش أمام رؤيتهم ويفغر فاه ويصيح:” يا لهذه المعجزة! ما هذه الأعاجيب التي تُسمى شجرة، بحر، صخرة، طائر…”. كان يبدو لي سعيدا ومرحًا كما شاع عنه، بيد أنه في الحقيقة مليء بالأسئلة التي تؤرقه ويبحث عن إجابات مقنعة لها، ويحمل أفكار ومشاعر إنسانية أكثر مما يبدو في الظاهر، فمثلًا تارة تشعر أنه يقدس المرأة وتاره أخرى يلعنها، ويلعن كل بني البشر. الرواية عميقة تميل إلى التشاؤم أكثر مما كنت أظن. بالإضافة إلى أن الكلمات كان لها تأثيرها الخاص هنا. فانتقاء المرء للكلمات يحكي الكثير عنه، أو بالأحرى عن التجارب التي مر بها، فزوربا لم يكن شخصًا بغيضًا، بيد أن كلماته في بعض الأحيان كان تستفزني، إلى أن استوعبت أنها مجرد مرآة تعكس ما عاشه في عمره الطويل. أما شخصية الكاتب فوجدت فيها السلوى، فنحن عندما نرى تصرفاتنا التي كنا لا نفهمها متمثلة في شخصية ما في كتاب أو فيلم أو ما شابههما نشعر بالألفة، وبأننا لسنا فضائيين مثلا. أما لماذا اخترت هذا النسخة بالذات؛ فلأنني في الحقيقة فُتنت بتصميم غلاف الكتاب للفنان عبد الرحمن الصواف. علاوة على أن مقدمة المحرر بقلم الكتاب المصري محمد الجيزاوي كانت رائعة. وفي النهاية تجربتي مع هذا الكتاب محيرة، فقد أقبلت عليه بشعور ما لبث أن انطفئ، وتولد شعور معاكس له رافقني إلى قبيل النهاية، وتخلله شيء من الملل.
الاقتباسات التي اعجبتني:
“قل ماذا تفعل بالطعام الذي تتناوله، أقل لك من أنت. بعضٌ يحوله إلى شحم وخراء، وبعضٌ إلى عمل ومرح، والآخرون كما قيل لي إلى: إله. إذن فهناك ثلاثة أنواع من الرجال وأنا لست من أسوأهم ولا من أحسنهم، ربما بين الاثنين. فالذي أتناوله أحوله إلى عمل وإحساس بالمتعة، وهذا ليس سيئًا بالمرة.”
“أما بالنسبة إليك أيها الرئيس، فأنا أظن بأن كل ما تتناوله تسعى لتحويله إلى إله. ولكنك لا تستطيع فعل هذا، وهذا ما يعذبك، وتقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه الغراب. – وما الذي وقع فيه الغراب يا زوربا؟ – كان يمشي كما تعلم بشكل محترم، ومنتظم، تمامًا كغراب. لكنه ذات يوم خطر بباله أن يتبختر كالحَمَام. فلم يستطع أن يتعلم المشية الجديدة، بل ونسي مشيته القديمة، ولم يَعُد يعرف كيف يمشي فأصبح يعرج.”
“لن أسمح لأحد بأن يقول لي أن كبر العمر يجعل الرجل مستقيمًا، أو أن الرجل الكبير عليه حين يلقى الموت أن يقول له: “هيا اقطع عنقي لكي أذهب إلى السماء”. فكلما طال عمري، ازددت ثورة، لن أستسلم أبدًا.. لأريد أن أغزو العالم.”
“أنا أؤمن بأن لكل إنسان رائحة خاصة به، لكنها تختلط مع روائح الآخرين، ولا نستطيع أن نعرف أيها لك وأيها لي، إننا نعلم فقط بأنها الرائحة النتنة، وهذا ما ندعوه بالإنسانية، أي الإنسانية النتنة، لكن هناك من يستسيغها كأنها رائحة حلوة، أما أنا فتدفعني للغثيان.”
“تجتاح الذاكرة ذكريات عديدة، ونرى بوضوح أننا لسنا إلا بشرًا تائهين، تمر حياتهم مع القليل من المتع وقليل من الأحزان، وفي لحظات خاوية من كل قيمة نجد أنفسنا نبدأ فجأة في الصراخ: “يا للعار، ونعض على شفاهنا ندمًا حتى تُدمى”.”
“يا له من حزن وأسى ذاكَ الذي تشعر به عندما تسير وحيدًا على الشاطئ! كل لطمة موج، وكل خفقة طائر تذكرك بواجبك الذي عليك أن تقوم به. عندما نسير برفقة إنسان، فإنه يضحك ويصيح ويتكلم، وهذه الأصوات تجعلنا لا نسمع ما تقوله الأمواج والطيور … أو من يدري؟! ربما هي أصلًا لا تقول شيئًا. فهي تنظر إليك وأنت تمر من أمامها وتثرثر فتصمت هي.”
“أسأل نفسي كثيرًا: “ما هذا العالم؟ ما الهدف من حياتنا الزائلة؟! زوربا يقول أن بعض الناس يسعدون بالمادة، وآخرون بالفكر. وكل هذا سواسية لو نظر إليه من زاوية أخرى. لكن لماذا؟ ومن أجل من؟ وعندما يخفت صوت الجسد هل يبقى ما نُسميه الروح؟ أم أنه لا يبقى شيء البتة؟ وهل يكون ظمئونا الأبدي ناتجًا من كوننا خالدين؟ أم أننا في كل لحظة نتنفس فيها نخدم شيئًا خالدًا؟!”
“أي فرح وسعادة تتملك الإنسان عندما يسير كل شيء عكسًا، فيُعرض روحه لاختبارات قاسية ليرى إن كان لها قيمة حقًا … وأيا كان فإننا نظل ثابتين، واقفين على أقدامنا، وفي كل مرة ينتصر فيها الإنسان داخليًا، رغم قهره وخسارته خارجيًا، فإنه حينها يشعر بكبرياء وفرح لا يمكن التعبير عنهما.”
“يدعي الإنسان بأنه قد بنى حوله حصنًا منيعًا ليحتمي به من غدرات الزمان، لكن الموت، ذلك العدو الرهيب الأكيد، الذي يخشاه الإنسان حتى آخر لحظة، يتسلل بألف رجل ببطء في الخفاء، وقد اجتاز الآن الجدران العالية وانقض على روحي … وصلت إلى الشاطئ.. التقطت أنفاسي.. وفكرت: “إن هذه المخاوف كلها تتولد من داخلنا، فنراها في أحلامنا كرموز لامعة، والحق أننا نحن من خلقها”.”

خلطة الحلوم
نحب أنا وأختي شطيرة الحلوم التي يصنعها مقهانا المفضل، ومن هنا بدأت الحكاية في البحث عن طريقة لصنعها منزليًا. وبالفعل وصلنا لمبتغانا، السر باختصار هي عبارة عن خلطة من الأجبان وليس الحلوم فقط، يصاحبها الزيتون الأسود الاسباني، وقليل من صلصة البيستو (الريحان).
المقادير بحسب الكمية، أما المكونات فهي: جبنة حلوم مفرومة، جبنة سائلة، لبنة، زيتون أسود، صلصة الريحان أو حتى أوراق الريحان وقليل من زيت الزيتون.
أما السر الآخر الذي يضفي لذاذة لا تقاوم هو تحميص الشطيرة بعد حشوها في آلة التحميص، والاستمتاع بتناولها ساخنة.

فيلم Mrs Harris Goes to Paris
فيلم خيالي من النوع السعيد الذي يطلق فراشات حولك، فتشعر أنك في عالم جميل. البطلة الجميلة ليزي مانفيل التي تقوم بدور (أدا هاريس)، عاملة التنظيف اللندنية التي تحلم بأن تشتري فستان ديور، وفي رحلة السعي وراء حلمها تواجه العديد من الأمور، والكثير من الحظ الجيد. تمتلك أدا قلبًا كبيرًا يحب الحياة، وتحاول مساعدة الآخرين، وتعمل بشغف ورضا وبهجة. هذا الفيلم كان توصية من روان (أختي الجميلة).
تقول السيدة هاريس: ” نحن بحاجة إلى أحلامنا، الآن أكثر من أي وقت” فعلًا اتفق معها بل ونحن بحاجة إلى البهجة في وقتنا الحالي أكثر من أي وقت مضى، حتى وإن كانت في سويعات مع فيلم مبهج في محاولة لمقاومة الصوت الذي يقف بالمسطرة فوق رؤوسنا ويرينا الجانب الصعب الكئيب من الحياة. بالتأكيد لا تصفو الحياة من الكدر لكننا يجب أن نستمتع رغما عن الغياب والخيبات والآلام. لكل واحد منا مشربه ومزاجه فيما يبهج نفسه، لا تبخل على نفسك بقطرة تندي أيامك حتى لو كانت حلمًا أو ضربًا من خيال.

شمس المعرفة طه حسين
أضاءت شمس عميد الأدب العربي طه حسين الأيام الأخيرة من فبراير، وأعتقد أن النور تسرب إلى الشهر القادم، فستكون كتبه منهلي في الأيام القادمة. فياله من شخصية جامعة للمحاسن ما أعجز عن التعبير عنها، فقد بدأت بقراءته من خلال عيني زوجته السيدة سوزان برسيو من كتاب (مَعَك)، وما أجمل أن تتعرف على شخصية ما في ضوء الحب، مُحِبًا ومحبوبًا، وفي خفايا حياته العادية، وبين أهله وأصدقائه. فيكتب المفكر طه حسين رسالة لسوزان عندما كان بعيدًا عنها: “بدونك أشعر أني أعمى حقاً. أما وأنا معك، فإنني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإلى أن أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي”. فتقول هي بعد غيابه الأبدي: “يقلقني عجزي عن إعادتك إلى قربي ويقنّطني. أعرف أنك تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟ وأعرف أن بوسعي أن أخاطبكَ، وأن بوسعكَ أن تجيبني، لكنك تفلتُ مني، وتفلتُ من نفسك، آه! ما أبعدك يا صديقي! لا أكاد أستطيع التغلب على هذا الضيق الذي يثقل صدري منذ هذا الصباح. ولو أنني تركت لنفسي هواها لبكيتُ دون توقف.” علاقة لم تكن مجرد حب، بل أكثر وأقوى وأجمل. ثم شاهدت حضوره في لقاء تلفزيوني بين مجموعة من الشخصيات المؤثرة في الأدب العربي، في برنامج يسمى (نجمك المفضل). ومازلت رحلة التنقيب مستمرة.
وفي النهاية، أدعو لكم بأيام رحبة وآمنة ونابضة بالحياة. وبأن تقتربوا من أحلامكم وأمنياتكم.
دمتم بخير وسرور.
رأي واحد حول “صندوق شهر فبراير”