صندوق مارس

أتى الربيع ولكنه لم يشبه ما اعتدنا عليه من الربيع، بل كان في الحقيقة شتاءً يرفل في ثوب ربيعي. فما زال الليل يحمل شيء من صقيع الشتاء، والنهار به شيء من نسمات باردة، وأما الغيوم فإنها تتشكل بألوان زاهية تجعلني أتوق لتأمل منظر الغروب كل يوم. وهكذا جمعت الأجواء هذا الشهر أجمل فصلين بالنسبة لي. ثم أتى رمضان، فأزداد مارس تألقًا وروحانية. أما أبرز مباهج ومسرات هذا الشهر هو أنني قرأت كتبًا أكثر من المعتاد واستمتعت بها. فقد كان أكثرها قبل بداية شهر رمضان، لأن لرمضان معادلته الوقتية الخاصة، وروتينه المختلف عن كل الشهور.

دعاء الكروان للكاتب المصري طه حسين:

بدأت الشهر برواية الأديب المصري طه حسين، تلك التي تحولت لفيلم سينمائي، لم أشاهده في الحقيقة، لكنني أجزم أو أكاد أجزم أن الكتاب أغنى بلغته الراقية، وطريقته في الوصف الآخذة. فطه حسين يجيد فن تحريكك من مجرد قارئ إلى مسافر بين خفايا وأسرار الشخصيات والأحاديث التي يحيكها المرء في نفسه. كما أنه يعتبر مدرسة في اللغة العربية، فالقراءة له تثري القارئ بالمفردات والمترادفات الجميلة. توجد مؤلفات الأديب طه حسين بنسخة الكترونية على مؤسسة هنداوي، كما توجد نسخة صوتية على اليوتيوب لدعاء الكروان بصوت حسناء إبراهيم هنا الرابط.

ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري للكاتب الياباني هاروكي موراكامي ترجمة بثينة الإبراهيم:

قد يكون هذا الكتاب عن الجري، لكنه يحمل دروسًا في جميع شؤون الحياة، وكذلك يعتبر سيرة ذاتية عن الكاتب الياباني هاروكي موراكامي. ما جعلني أقرأ هذا الكتاب هو محبتي للجري، بالرغم من أنني لست ماهرة فيه كمهارة هاروكي ولا حتى جادة مثله، لكنني أحب ما يجعل قلبي يخفق خفقًا يكاد به أن يخرج من مكانه، حينها أشعر بالحياة. ففكرت هل هذا الكاتب المحب للجري يشعر مثلي، فأجد في الكتاب نصائح عن الكتابة، وعن تغيير المرء مساره في الحياة من صاحب أعمال إلى كاتب، أي من مهنة موثوقة تدر رزقًا مضمون، إلى مهنة محفوفة بعدم اليقين. وكذلك دورسًا عن الانضباط الذاتي وكيفية الاستمرار في التدفق. وعن عيش الحياة ورعاية الجسد والعقل.

جمعية غيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطا ماري آن شيفر وآني باروز وترجمة حنان مظفر:

استمتعت بهذه الرواية أيما استمتاع، فأنا أحب الروايات الرسائلية، والكتب التي تتحدث عن الكتب وحب القراءة ونوادي القراءة. في البداية شاهدت الفيلم وعرفت أنه مقتبس من رواية فتوقفت عن المشاهدة وبحثت عن الرواية وقرأتها في أقل من أسبوع، وككل من قرأ الاسم يشده أن يعرف ما وجه الارتباط بين جميعة الأدب وقشر البطاطا فتظهر قصة التسمية المضحكة. تدور القصة عن الكاتبة (جولييت) التي تكتشف نادي قراءة تم إنشائه أثناء الهجوم الألماني على بريطانيا\ أثناء الحرب العالمية الثانية، في جزر القنال الإنجليزي المنبوذة، حيث انتهت الحرب لكنها ما تزال حية في قلوبهم مع كل ما فقدوه، حيث راسلها أحد أعضاء النادي (دوزي) طالبًا منها كتابًا، بعد أن وجد كتابًا من مكتبتها عليه عنوانها، ويا للعجب كيف وصل الكتاب هناك، في حين أنها لم تزر تلك الجزيرة قط. ومن هنا تبدأ المراسلات مع جميع أعضاء النادي. جمال هذه الرواية أنها تدور عن القراءة والكتب والحرب، وكيف تتفاعل هذه العناصر للنهوض بالبشر من جديد. والأجمل أن هذه الرواية بدأتها المؤلفة ماري آن شيفر وأكملتها ابنة أخيها آني باروز.

الاقتباسات التي أعجبتني:

“هذا ما يشدني للقراءة، تفصيل صغير يشدك إلى كتاب ما، والذي يقوم بدوره باستدراجك إلى كتاب آخر، وهكذا دواليك. إنها حلقة غير متناهية من المتعة.”

“أحب الذهاب إلى المكتبات ولقاء بائعي الكتب، فهم صنف نادر. من غيرهم يقبل بهذا العمل وأجره الزهيد أو امتلاك محل هامش الربح فيه بسيط؟ لا بد أن الدافع هو حبهم للقراء والقراءة فضلًا عن إغراء أن يكونوا أول من لهم الحق في الحصول على الكتب الجديدة.”

“إن الرجال أكثر إثارة للاهتمام في الكتب منهم في الواقع.”

“إن قراءة الكتب الجيدة تفسد استمتاع المرء بالكتب السيئة.”

“فتعلقنا بالكتب وبأصدقائنا لأنهم ذكرونا بأن هناك جانبًا آخر لحياتنا. كانت إليزابيث تلقي قصيدة لا أستطيع تذكر كل كلماتها، لكنها كانت تبدأ بـ “هل من التفاهة أن يكون المرء قد استمتع بالشمس، ورأى النور في الربيع، وأحب وفكر وعمل وطور صداقات حقيقية؟” لم يكن ذلك تافهًا. أتمنى أن تكون قد احتفظت بذلك في ذاكرتها أينما كانت.”

“ألا تعتبرينه أمرًا مريعًا أننا نعلم عن روحنا من خلال الاستماع لما يشاع عنها بدل أن تعرفيها بنفسك من خلال دلائلها؟ إن كنت أقنع بوجود هذه الروح، فلمَ أرضى بواعظ ديني يدلني عليها عوضًا عن الاستماع إلى دلائل تلك الروح في نفسي؟”

“عزيزتي جولييت، أنا أيضًا يخامرني شعور بأن الحرب مستمرة إلى ما لا نهاية. عندما توفي ابني إيان في العلمين – جنبًا إلى جنب مع جون والد إيلاي – كان الزوار يعزونني بقولهم “إن الحياة ستستمر”. كنت أقول في نفسي، ما هذا الهراء؟ كيف لها أن تستمر. الموت هو الذي يستمر، فإيان ميت الآن وسيبقى ميتًا غدًا وفي العام التالي وللأبد. لا نهاية لذلك. لكن قد تكون هناك نهاية للحزن الذي يصاحب الموت. فالحزن غمر العالم كما غمره الماء أثناء الطوفان العظيم، وسيستغرق الأمر وقتًا لينحسر الحزن. بيد أن ثمة بعضًا من جزر الأمل قد بدأت تطفو. هل هي السعادة؟ أو شيء من هذا القبيل. أحببت صورتك وأنت تقفين على الكرسي لتستمتعي بالقليل من أشعة الشمس، متجنبة النظر إلى أكوام الأنقاض.”

“ظننت أنني سألقى حتفي في الأسبوع الأول، فقد تم إرسالي مع غيري من السجناء لنزع القنابل التي لم تنفجر أثناء الغارات الجوية. يا له من اختيار، أن تجري في ساحة بينما تنهال القنابل من حولك، أو أن تقتل على يد الحرس لأنك ترفض القيام بذلك. جريت وتدحرجت كالفأر، وحاولت أن أحتمي عندما كنت أسمع صفير القنابل فوق رأسي. في النهاية نجوت بمعجزة. وكنت أواسي نفسي بالقول: حسنًا ما زلت على قيد الحياة. أعتقد أن كلا منا كان يردد ذلك في نفسه صباح كل يوم: حسنًا ما زلت على قيد الحياة. لكننا في الواقع لم نكن على قيد الحياة. لم نكن موتى، لكن لا يمكن وصف حالتنا بأننا على قيد الحياة. كنت روحا حية لدقائق قليلة عندما كنت في سريري. كنت حينها أحاول التفكير بما قد يسرني، بشيء يعجبني، وليس بشيء أحبه لأن ذلك كان يزيد الأمور سوءًا. شيء بسيط ليس إلا مثل صورة الصف في المدرسة، أو ركوب الدراجة على التل. كان هذا أقصى ما أتحمل التفكير فيه.”

“إن ما يجعل الكتب شيئًا رائعًا، وما جعلها ملاذا لسكان الجزيرة أثناء الاحتلال، هو أنها تأخذنا بعيدًا عن زماننا ومكاننا وتفكيرنا، ولا تنقلنا إلى عالم شخصياتها وحسب، بل إلى عالم قرائها أيضًا، الذين لديهم قصصهم الخاصة.”

الأيام للأديب طه حسين:

لم أقرأ حتى الآن سيرة ذاتية بجمال وصدق وشفافية هذه السيرة، لم يحاول عميد الأدب العربي طه حسين أن يجمل أو يعظم من أفعاله أو سلوكياته أو أفكاره التي صدرت منه على مر السنوات التي عاشها. فتراه يروي عن نفسه وينقدها ويعتذر عن سوء ما بدر منها وينكره. فكانت سيرة أدب في الأدب، ومواساة للمبتلين، وعزم وشجاعة لمثبطي ذواتهم، ونظرة شاملة وناقدة لرجل عاش الكثير يحمل معه قدره الذي قدره الله عليه متأذيًا منه حينًا راضيًا به أحيان أخرى. فيحكي عن نفسه وكأنه حكواتي يحكي بأسلوبه الذي لا يمل منه عن طفولته وعن صباه وشبابه حتى كبر وشاخ، فيتجنب أن يشير إلى نفسه بالضمير (أنا) أو فيما هو في حكمها، ويأتي بألفاظ مجردة فيشير إلى نفسه ويقول (الفتى) أو (صاحبنا)، وعندما يروي عن أباه شيء يختار أن يسمه (الشيخ). ويتفنن في الوصف فتظن من جمال ودقة الوصف أن عينيه لم يصبهما أذى، يرى بهما كل ما يحكي عنه، لكن الحقيقة أن الله عوضه بحواس أخرى جبرت نقصه ونقصنا في عدم اعتيادنا على استخدامها في الرؤيا والتعبير، فقد كان يرى بسمعه، ويعرف ما إذا كان المصباح مشتعلًا أم لا، فقد كان يبصر العوالم الأخرى التي لا تكون إلا في الظلام، وكان يعرف الطرق والشوارع بأصواتها وروائحها.

فن التوكل في إحياء علوم الدين للغزالي مع د. أحمد العطاس:

أردت أن أقرأ شيء للعلامة أبو حامد الغزالي (طبيب القلوب) كما يلقبونه، فوجدت هذه السلسلة الرائعة التي تشرح فصول من كتاب إحياء علوم الدين، التي يلقيها الدكتور أحمد العطاس في قناته في اليوتيوب في ثلاث سلاسل اسمها فن التوكل و فن الرضا و عجائب القلب مع طبيب القلوب الغزالي. وكان فعلا حديث يحي القلوب فتختلف نظرتك للحياة والأقدار وتتعلم التسليم والتوكل من أولياء الله أو على الأقل تحاول أن تلحق بهم. وكم كنت بحاجة إلى تهذيب نفسي في التعامل مع الأقدار وتشذيب قلبي مما أغتر به، وتكفيرًا عن سوء جزعي وقلة صبري وضعف توكلي.

وفي الختام، الحمد لله على الأيام الرحبة التي تلملم شتاتنا، وأدعو الله أن تتوالى عليكم الرحمات، وتأتيكم البشائر، وتعمر قلوبكم بالرضا والأمان.

رمضان كريم عليكم يا أصدقاء، ودمتم بكرم وحب وعافية.

رأيان حول “صندوق مارس

    1. ممنونة لك أستاذ طارق ولتعليقك البهي البشوش، وأتمنى أن تكون صناديقي فسحة من البهجة والأمل🌿☀️

      رمضانك محفوف بالمحبة والرضا والقبول🤍

      Liked by 1 person

أضف تعليق